من الحق أن عز الدين لزم شيخه ابن عساكر وتأثر به، ولكنه لم يلتزم نصحه فيما يطلب من علوم، فتاق إلى التزود بمعارف عصره جميعا. وكانت أفكار اليونان والمصريين القدماء والهنود والفارسيين قد نقلت إلى اللغة العربية .. وكان المسلمون قد تفوقوا في علوم الطبيعة والطب والكمياء والرياضيات والفلك، وتعاطوا الفلسفة فأراد عز الدين أن ينهل من هذا كله.
وكانت فلسفة الإشراق التي جاء بها السهروردي إلى دمشق وحلب تعيش، وتصك أعداء تلك الفلسفة الذين نجحوا من قبل في الإيقاع بالسهروردي، فأغروا به صلاح الدين. وكان ابنه الظاهر يحمي السهروردي في قصره بحلب .. فأمر صلاح الدين ابنه الظاهر أن يسجن السهروردي حتى يهلك في سجنه صبرا وجوعا وعطشا، ولكن الظاهر بن صلاح امتنع، فأرسل إليه أبوه يخبره بين إحدى اثنتين: أما قتل السهروردي أو العزل!
وأذعن صاحب حلب لأمر أبيه صلاح الدين وجاء السهروردي وخصومه، وأمرهم أن يناظروه قبل أن يقضي في أمره.
كان السهروردي شيعيا، وصلاح الدين يحارب الشيعة ويضربهم في مكان .. وكان السهروردي ينادي بأن العالم لم يخل من الحكمة ومن شخص قائم بها عنده الحجج والبينات، وهذا الشخص هو الإمام وهو خليفة الله في أرضه، وهو واجب الاتباع فهو معصوم يوحي إليه لكن على نحو آخر غير الأنبياء والرسل!
وكان السهروردي يذهب إلى أن النور أساس كل الموجودات، ويعتمد على الآية الكريمة: "الله نور السماوات والأرض". وقد استفاد بحكمه اخناتون الذي نادى بالتوحيد في مصر القديمة، واعتبر النور والشمس بالذات سبب وجود كل الكائنات الحية، كما استفاد الرجل بأفكار أفلاطون في المثل وآراء زاردشت الفارسي. ولكنه رد كل أفكاره إلى القرآن الكريم .. واحسن الاستشهاد بآياته..
ولم يعرف أحد لماذا آثار فقهاء دمشق على السهروردي، واتهموه بالشعوبية وهي الدعوة إلى تغليب الفرس على العرب، ثم اتهموه بالشعوبية وهي الدعوة إلى تغليب الفرس على العرب، ثم اتهموه بالكفر! .. وعلى الرغم من أن الظاهر بن صلاح الدين كان سنيا كأبيه، فقد بسط حمايته على السهروردي معجبا بأفكاره الصوفية، وبفكرة الإشراق، والفيض الإلهي الذي تشرق به قلوب الصالحين فيحصلون المعرفة الذوقية مع المعرفة العقلية.
ومهما يكن من أمر فقد جمع الظاهر بن صلاح الدين خصوم السهروردي من الفقهاء .. وبدأت المناظر أو المحاكمة التي صدر فيها سلفا أمر صلاح الدين بقتل السهروردي حكيم الإشراق!!
سأله خصومه: "الله قادر على أن يخلق ما يشاء؟!"
قال السهروردي: "نعم" فسألوه ونبي الإسلام أليس هو خاتم الأنبياء؟."
قال: "بلى" قالوا: "ألا يستطيع" إله هكذا أن يبعث نبيا بعد نبي الإسلام؟".
كان السؤال مصيدة للرجل!
قال السهروردي بعد لحظة: "ختمت النبوة ولكن الولاية قائمة."
وأخذوه برأيه في الولاية .. فهو يرى أن ولي الله وهو الإمام المعصوم قطب الأقطاب خليفة الله في الأرض يجب أن يكون من نسل النبي .. وهذا النظر يحكم بعدم شرعية الخلفاء والملوك إلا إذا كانوا من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم .. أي من أبناء علي وفاطمة رضي الله عنهما .. وصلاح الدين نفسه ليس عربيا على الإطلاق فهو كردي الأصل. وهكذا اضطر الظاهر بن صلاح الدين أن يودع السهروردي غيابة السجن، حيث قتلوه صبرا وجوعا!
ولقد وقعت الواقعة بالسهروردي بينما كان عز الدين بن عبد السلام صبيا في نحوه العاشرة من عمره، وزلزلت نهاية السهروردي الفاجعة نفس الصبي زلزالا شديدا، ولم يفارقه الحزن والعجب .. كيف يقضي على رجال بالموت لأنه قال رأيا يخالف فيه بعض الفقهاء، ولا يرضى عنه الحاكم!؟
ولكن أفكار السهروردي في الإشراق قد ذاعت وملأت أماكن العلم، وأصطك فيها الناس بين مستنكر ومعارض .. منهم من يرى القتيل شهيدا مات دفاعا عن تصوفه ومنهم من يراه كافرا!! حتى ظهر في دمشق رجل آخر تسمى باسم السهروردي، وأذاع أفكار السهروردي في الإشراق، ولكنه لم يعد يتحدث الإمامة والولاية، ولبس خرقة التصوف، ومضى في الطرقات يهتف بالناس: "الله نور السماوات والأرض." وأخذ يشرح أفكار السهروردي عن النور والفيض الإلهي ..
وتبعه قوم لبسوا خرق التصوف، وأطلقوا كلمات في الأسواق وندوات العلم. كلمات مكثفة تحمل رموزا كثيرة..!
وبهر الشاب عز الدين بهؤلاء وأحوالهم .. وبهرته بصفة خاصة شخصية السهروردي الجديد فلزمه على الرغم من نصيحة شيخه .. ولبس عز الدين خرقة التصوف عاما أو بعض عام ملتمسا على الحقيقة على يد السهروردي الجديد، حتى إذا علم ما عنده، عاد إلى أستاذه ابن عساكر يلتمس عنده علوم الشريعة من جديد ..
وسمع عز الدين أن في العراق شيخا عنده من علم الحديث ما ليس عند غيره في دمشق فحمل متاعه وزاده وسافر إلى بغداد، وجلس إلى ذلك الشيخ وحفظ عنه الحديث .. ثم عاد من جديد إلى دمشق.
كان صلاح الدين الأيوبي قد مات، وترك دولة شاسعة تقاسمها أخوته وأبناؤه وأبناء أخوته .. وما هي إلا سنوات حتى تقطعوا أمرهم، فتفرقوا وأصبح بأسهم بينهم شديدا .. وتمزقت دولة صلاح الدين إلى دويلات تناحرت فيما بينها، مما أغرى التتار والصليبيين بالطمع في الاستيلاء على بعض أجزاء هذه الدولة الإسلامية الكبرى.
وقد أسكت هؤلاء الحكام معارضيهم إما بالإرهاب والقمع أو بإغراقهم في المال أو بدفعهم إلى الزهد والتصوف على نحو لم يعرفه السلف الصالح من الزهاد والمتصوفين. وكان هؤلاء جميعا من العلماء والفقهاء الذين يؤثرون في الأمة أبلغ تأثير!
وعز الدين يرى كل هذا.، فيتقدم صفوف طلاب العالم تحت راية الإسلام وخلف قيادة بعض شيوخه من العلماء القلائل المقاومين .. وعرفه الشباب خطيبا يستثير الحمية. وكان إلى هذا شديد الدأب على تحصيل العلم، مما أثار إعجاب شيوخه به.
ولم يكد ينتهي من الدراسة على شيخه الفخر بن عساكر، وغيره من الشيوخ في جامع دمشق، حتى أجازوه للتدريس.
وعين مدرسا بدمشق، يقرئ صغار الطلاب القرآن، ويعلمهم القراءة والكتابة .. ثم نقل إلى مدرسة أعلى .. يعلم الطلاب الفقه وأصول الفقه على المذهب الشافعي .. وهو المذهب السائد إذ ذاك في كل البلاد التي حكمها صلاح الدين.
وهيأت له مهنة التدريس أجرا طيبا أصلح به حاله، فاستأجر بيتا لائقا وتزوج ..
وعرف الناس في ندوات دمشق شيخا متوسط الطول، يسخر مما يلقي، مرحا ضاحك السن وعليه مع ذلك وقاره عذب الحديث، خفيض الصوت إذا تكلم، جهير الصوت إذا انفعل أو خطب، نظيف الثوب، لا يرد سائلا، فإذا لم يجد ما يتصدق به اقتطع جزءا من عمامته ودفع به إلى سائله!
وكان نحيلا يقتحم بنظراته المجهول كأنه يفتش وراء الغيب عن شيء ما..!
لم يقتنع بما نال من علم، فتعود أن يغشى مكتبه الجامع الأموي يقرأ فيها كل ما يقع عليه من معارف، وقد كشفت له تأملاته ودراساته في آثار السلف أن كل المعارف الإنسانية تعين على فهم القرآن .. وكان يريد أن يفسر القرآن، ولكنه شعر أن الوقت لم يحن بعد، وأن عليه أن يستوعب الكثير من العلوم حتى يجسر على العمل بالتفسير وهو مطمئن الضمير!
--------------------------------------------------------------------------------
وكانت فلسفة الإشراق التي جاء بها السهروردي إلى دمشق وحلب تعيش، وتصك أعداء تلك الفلسفة الذين نجحوا من قبل في الإيقاع بالسهروردي، فأغروا به صلاح الدين. وكان ابنه الظاهر يحمي السهروردي في قصره بحلب .. فأمر صلاح الدين ابنه الظاهر أن يسجن السهروردي حتى يهلك في سجنه صبرا وجوعا وعطشا، ولكن الظاهر بن صلاح امتنع، فأرسل إليه أبوه يخبره بين إحدى اثنتين: أما قتل السهروردي أو العزل!
وأذعن صاحب حلب لأمر أبيه صلاح الدين وجاء السهروردي وخصومه، وأمرهم أن يناظروه قبل أن يقضي في أمره.
كان السهروردي شيعيا، وصلاح الدين يحارب الشيعة ويضربهم في مكان .. وكان السهروردي ينادي بأن العالم لم يخل من الحكمة ومن شخص قائم بها عنده الحجج والبينات، وهذا الشخص هو الإمام وهو خليفة الله في أرضه، وهو واجب الاتباع فهو معصوم يوحي إليه لكن على نحو آخر غير الأنبياء والرسل!
وكان السهروردي يذهب إلى أن النور أساس كل الموجودات، ويعتمد على الآية الكريمة: "الله نور السماوات والأرض". وقد استفاد بحكمه اخناتون الذي نادى بالتوحيد في مصر القديمة، واعتبر النور والشمس بالذات سبب وجود كل الكائنات الحية، كما استفاد الرجل بأفكار أفلاطون في المثل وآراء زاردشت الفارسي. ولكنه رد كل أفكاره إلى القرآن الكريم .. واحسن الاستشهاد بآياته..
ولم يعرف أحد لماذا آثار فقهاء دمشق على السهروردي، واتهموه بالشعوبية وهي الدعوة إلى تغليب الفرس على العرب، ثم اتهموه بالشعوبية وهي الدعوة إلى تغليب الفرس على العرب، ثم اتهموه بالكفر! .. وعلى الرغم من أن الظاهر بن صلاح الدين كان سنيا كأبيه، فقد بسط حمايته على السهروردي معجبا بأفكاره الصوفية، وبفكرة الإشراق، والفيض الإلهي الذي تشرق به قلوب الصالحين فيحصلون المعرفة الذوقية مع المعرفة العقلية.
ومهما يكن من أمر فقد جمع الظاهر بن صلاح الدين خصوم السهروردي من الفقهاء .. وبدأت المناظر أو المحاكمة التي صدر فيها سلفا أمر صلاح الدين بقتل السهروردي حكيم الإشراق!!
سأله خصومه: "الله قادر على أن يخلق ما يشاء؟!"
قال السهروردي: "نعم" فسألوه ونبي الإسلام أليس هو خاتم الأنبياء؟."
قال: "بلى" قالوا: "ألا يستطيع" إله هكذا أن يبعث نبيا بعد نبي الإسلام؟".
كان السؤال مصيدة للرجل!
قال السهروردي بعد لحظة: "ختمت النبوة ولكن الولاية قائمة."
وأخذوه برأيه في الولاية .. فهو يرى أن ولي الله وهو الإمام المعصوم قطب الأقطاب خليفة الله في الأرض يجب أن يكون من نسل النبي .. وهذا النظر يحكم بعدم شرعية الخلفاء والملوك إلا إذا كانوا من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم .. أي من أبناء علي وفاطمة رضي الله عنهما .. وصلاح الدين نفسه ليس عربيا على الإطلاق فهو كردي الأصل. وهكذا اضطر الظاهر بن صلاح الدين أن يودع السهروردي غيابة السجن، حيث قتلوه صبرا وجوعا!
ولقد وقعت الواقعة بالسهروردي بينما كان عز الدين بن عبد السلام صبيا في نحوه العاشرة من عمره، وزلزلت نهاية السهروردي الفاجعة نفس الصبي زلزالا شديدا، ولم يفارقه الحزن والعجب .. كيف يقضي على رجال بالموت لأنه قال رأيا يخالف فيه بعض الفقهاء، ولا يرضى عنه الحاكم!؟
ولكن أفكار السهروردي في الإشراق قد ذاعت وملأت أماكن العلم، وأصطك فيها الناس بين مستنكر ومعارض .. منهم من يرى القتيل شهيدا مات دفاعا عن تصوفه ومنهم من يراه كافرا!! حتى ظهر في دمشق رجل آخر تسمى باسم السهروردي، وأذاع أفكار السهروردي في الإشراق، ولكنه لم يعد يتحدث الإمامة والولاية، ولبس خرقة التصوف، ومضى في الطرقات يهتف بالناس: "الله نور السماوات والأرض." وأخذ يشرح أفكار السهروردي عن النور والفيض الإلهي ..
وتبعه قوم لبسوا خرق التصوف، وأطلقوا كلمات في الأسواق وندوات العلم. كلمات مكثفة تحمل رموزا كثيرة..!
وبهر الشاب عز الدين بهؤلاء وأحوالهم .. وبهرته بصفة خاصة شخصية السهروردي الجديد فلزمه على الرغم من نصيحة شيخه .. ولبس عز الدين خرقة التصوف عاما أو بعض عام ملتمسا على الحقيقة على يد السهروردي الجديد، حتى إذا علم ما عنده، عاد إلى أستاذه ابن عساكر يلتمس عنده علوم الشريعة من جديد ..
وسمع عز الدين أن في العراق شيخا عنده من علم الحديث ما ليس عند غيره في دمشق فحمل متاعه وزاده وسافر إلى بغداد، وجلس إلى ذلك الشيخ وحفظ عنه الحديث .. ثم عاد من جديد إلى دمشق.
كان صلاح الدين الأيوبي قد مات، وترك دولة شاسعة تقاسمها أخوته وأبناؤه وأبناء أخوته .. وما هي إلا سنوات حتى تقطعوا أمرهم، فتفرقوا وأصبح بأسهم بينهم شديدا .. وتمزقت دولة صلاح الدين إلى دويلات تناحرت فيما بينها، مما أغرى التتار والصليبيين بالطمع في الاستيلاء على بعض أجزاء هذه الدولة الإسلامية الكبرى.
وقد أسكت هؤلاء الحكام معارضيهم إما بالإرهاب والقمع أو بإغراقهم في المال أو بدفعهم إلى الزهد والتصوف على نحو لم يعرفه السلف الصالح من الزهاد والمتصوفين. وكان هؤلاء جميعا من العلماء والفقهاء الذين يؤثرون في الأمة أبلغ تأثير!
وعز الدين يرى كل هذا.، فيتقدم صفوف طلاب العالم تحت راية الإسلام وخلف قيادة بعض شيوخه من العلماء القلائل المقاومين .. وعرفه الشباب خطيبا يستثير الحمية. وكان إلى هذا شديد الدأب على تحصيل العلم، مما أثار إعجاب شيوخه به.
ولم يكد ينتهي من الدراسة على شيخه الفخر بن عساكر، وغيره من الشيوخ في جامع دمشق، حتى أجازوه للتدريس.
وعين مدرسا بدمشق، يقرئ صغار الطلاب القرآن، ويعلمهم القراءة والكتابة .. ثم نقل إلى مدرسة أعلى .. يعلم الطلاب الفقه وأصول الفقه على المذهب الشافعي .. وهو المذهب السائد إذ ذاك في كل البلاد التي حكمها صلاح الدين.
وهيأت له مهنة التدريس أجرا طيبا أصلح به حاله، فاستأجر بيتا لائقا وتزوج ..
وعرف الناس في ندوات دمشق شيخا متوسط الطول، يسخر مما يلقي، مرحا ضاحك السن وعليه مع ذلك وقاره عذب الحديث، خفيض الصوت إذا تكلم، جهير الصوت إذا انفعل أو خطب، نظيف الثوب، لا يرد سائلا، فإذا لم يجد ما يتصدق به اقتطع جزءا من عمامته ودفع به إلى سائله!
وكان نحيلا يقتحم بنظراته المجهول كأنه يفتش وراء الغيب عن شيء ما..!
لم يقتنع بما نال من علم، فتعود أن يغشى مكتبه الجامع الأموي يقرأ فيها كل ما يقع عليه من معارف، وقد كشفت له تأملاته ودراساته في آثار السلف أن كل المعارف الإنسانية تعين على فهم القرآن .. وكان يريد أن يفسر القرآن، ولكنه شعر أن الوقت لم يحن بعد، وأن عليه أن يستوعب الكثير من العلوم حتى يجسر على العمل بالتفسير وهو مطمئن الضمير!
--------------------------------------------------------------------------------