غير أن عز الدين ابتدره باسما: "أن هذا العقاب من نعم الله الجزيلة علي، الموجبة للشكر على الدوام. أما الفتيا فإنى كنت والله متبرما منها، وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم. ومن سعادتي لزومي لبيتي وتفرغي لعبادة ربي، والسعيد من لزم بيته، وبكى على خطئه، واشتغل بطاعة الله."
وأراد الشيخ أن يقدم هدية للرسول شكرا على هذه الرسالة السارة، فلم يجد غير سجادة صغيرة: ولما عاد خليل يروي للسلطان ما قاله الشيخ عز الدين قال السلطان محنقا: "قولوا لي ما افعل به؟! .. هذا رجل يرى العقوبة نعمة. اتركوه بيننا وبينه الله."
على أن الذين أحاطوا بدار الشيخ العز عز الدين لحراسته أنكروا عليه طاعته لأمر السلطان، وكلموه في ذلك فقال لهم إن مصلحة قيام الشرع تقتضي وجود السلطان، ومتى وجد وجبت طاعته وإلا تعطلت الأحكام!! ولكن لا طاعة للسلطان إذا خان عهد الله وأهدر مصالح المسلمين وأمر بمعصية الخالق. أما فيما عدا ذلك فالطاعة واجبة.
فأمرهم بالحسنى أن ينصرفوا إلى شئونهم ويدعوه وشأنه، فسيعتكف للعبادة .. أما وجودهم حول الدار فسيتيح لأعدائه أن يتهموه بإثارة الفتنة!
غير أنهم انصرفوا إلى الزاوية الغزالية التي كان يدرس بها، وأقسموا ألا يستمعوا لشيخ غيره.! وجلسوا في حلقته الفارغة متربصين! ولم يجئ إليهم أستاذ غيره يعلمهم مكانه!!
على أن سائر العلماء والفقهاء أضمروا السخط على ما أصاب الشيخ، ولكنهم رضوا به لأنهم كانوا يتوقعون عقابا أشد ودعوا الناس إلى الصبر وقضاء أخف من قضاء!!
أما الشيخ جمال الدين الخضيري شيخ الحنفية فما كان ليستطيع على ما جرى صبرا..! وكان عالما ورعا فاضلا صاحب نفوذ على قلوب الناس جميعا، وكان السلطان يحسب له ألف حساب!
وما هي إلا ثلاثة أيام قضاها عز الدين في بيته، متمثلا للأمر السلطاني، ممتنعا عن لقاء من سعوا إلى لقائه، حتى كان الشيخ الخضري يركب حماره إلى السلطان، ومعه ابن الحاجب شيخ المالكية. ولم يكد السلطان يعلم أن الشيخ الخضيري شيخ الحنفية قادم إليه حتى أمر كبير وزرائه وكبار حاشيته أن يستقبلوا الشيخ خارج القصر، وأن يدخلوه القصر راكبا حماره تكريما له.
ودخل الشيخ ساحة القصر، فاستقبله السلطان وأنزله بنفسه عن حماره، ودخله القصر وأجلسه إلى جواره وهش له، وجلس ابن الحاجب وفي يده ورقة فيها توقيع العلماء على تأييد موقف الشيخ عز الدين بن عبد السلام ..
وحين أذن لصلاة المغرب وبسطت المائدة للإفطار، أم الشيخ الخضيري السلطان في الصلاة! وبعد الصلاة دار الشراب عليهم وهم جلوس قبل أن ينتقلوا لمائدة الطعام. وكان الحاضرون هم حاشية السلطان من أراذل فقهاء الحنابلة أعداء العز بن عبد السلام ..
وقدم السلطان للشيخ قدح الشراب، فنحاه بإشارة غاضبة قائلا: "ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك"
فقال السلطان: "يرسم الشيخ ونحن نمتثل لمرسومه."
الشيخ: إيش بينك وبين ابن عبد السلام؟ .. هذا رجل لو كان في الهند أو في أقصى الدنيا كان ينبغي على السلطان أن يسعى في حوله في بلاده ويفخر به على سائر الملوك."
السلطان: عندي خطه باعتقاده في فتيا، وخطه أيضا في رقعة جواب رقعة سيرتها إليه. فيقف الشيخ عليهما ويكون الحكم بيني وبينه.
فلما قرأ الشيخ الخضيري رسالتي عز الدين بن عبد السلام رد الورقتين للسلطان وقال: "هذا اعتقاد المسلمين وشعار الصالحين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار!". ويهب الجميع فالشيخ يتهم السلطان بأنه حمار .. وريع السلطان من حدة الشيخ الخضيري، ونظر إلى ابن الحاجب المالكي فقدم إليه ورقة يؤيد فيها العلماء رأي ابن عبد السلام! ونظر إلى الحاشية من فقهاء الحنابلة فوجدهم قد أسودت وجوههم وعراهم الاضطراب. فقال السلطان الأشرف: "نحن نستغفر الله مما جرى، ونستدرك الفارط في حقه! .. والله لأجعلن ابن عبد السلام أغنى العلماء."
وقاموا إلى الإفطار، ثم أرسل السلطان إلى الشيخ عز الدين، فترضاه وأجلسه إلى جواره وسأله أن يطلب ما شاء ترضية له، فلم يطلب عز الدين شيئا. ولكن السلطان ظل يستعتبه ويسترضيه، حتى رضى الشيخ وعاد إليه مرحه .. وانزوى الأراذل من خصومه، وأذن للعشاء فأمهم الشيخ عز الدين لصلاة العشاء استجابة لدعوة الخضيري وابن الحاجب. وقبل أن ينفض المجلس أمر السلطان ألا يخوض أحد في الكلام في أمر الخلاف مرة أخرى.
وفي اليوم التالي عاد الشيخ عز الدين إلى الزاوية الغزالية بالجامع الأموي يدرس ويفتي، واستقبله محبوه هاتفين .. "الله اكبر .. الله اكبر .. ظهر الحق وزهق الباطل أن الباطل كان زهوقا.:
وعلم الملك الكامل سلطان مصر بما كان، فأرسل يسأل العز ويبدي استعداده لنصرته .. فشكره الشيخ ولم يحك له ما جرى.
وجاء الملك الكامل سلطان مصر، لزيارة أخيه الملك الأشرف سلطان دمشق. وسأل الملك أخاه عما حدث من خلاف بين الشافعية وبعض الحنابلة فقال الأشرف أنه قد أمر الفريقين بأن يكفا عن الكلام سدا لباب الخصام. فقال الملك الكامل ناهرا أخاه الأصغر: "والله مليح..! ما هذا إلا سياسة وسلطنة..!! تساوي بين أهل الحق وأهل الباطل، وتمنع أهل الحق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ كأن الطريق أن تمكن أهل السنة من أن يلحنوا بحججهم، وأن يظهروا دين الله تعالى، وأن تشنق من هؤلاء المبتدعة عشرين نفسا ليرتدع غيرهم، وأن تمكن الموحدين من إرشاد المسلمين وأن يبينوا لهم طريق المؤمنين" .. وذاب الملك الأشرف خجلا، وظل يعتذر عما بدر منه. فاتهمه أخوه الأكبر بالجهل، ونصحه أن يجلس إلى الشيخ عز الدين ليعلمه أصول الدين، ومازال به حتى أقنعه بصحة رأي الأشعري وفساد رأي حاشيته. وأوصاه بعز الدين خيرا فأرسل الأشرف في استدعائه وأخذ الملك الكامل يتلطف مع عز الدين أمام أخيه الملك الأشرف، ويسأله أن يتمنى عليه ما يشاء وعز الدين يشكره ويحمد الله إليه ولا يطلب شيئا .. ووقع الأشرف مرسوما بتعيين الشيخ عز الدين خطيبا للجامع الأموي ليزيد النفع بعلمه.
وقال الأشرف لأخيه الكامل: لقد غلطنا في حق الشيخ عز الدين بن عبد السلام غلطة عظيمة. ولكني ارتضاه ولن اعمل إلا بفتاويه ..
أقتنى السلطان الأشرف رسالة كتبها الشيخ عن مقاصد الصلاة، فكانت تقرأ عليه في اليوم ثلاث مرات، ولا يدخل عنده أحد إلا طلب منه أن يقرأها لينفعه الله بها. وكان يقول لبعض خاصته: "انسخوها وطرزوا بها مجالسكم."
اطمأن الكامل إلى إن أخاه الأشرف قد أصلح عقيدته، وأبعد من حاشيته الفقهاء المتملقين المنافقين البلداء المرتشين من أراذل الحنابلة.
وأصبح له مجلس أسبوعي من فضلاء الحنابلة وعلماء المذاهب الأخرى يتدارسون فيه الفقه وأصول الدين.
وجاءه الشيخ عز الدين مستجيبا لدعوته، وكان من قبل لا يجيبه، فاقترح عز الدين أن يرفع السلطان الضرائب التي تثقل الصناع والتجار والفقراء، وأن يعوضها بضرائب على الأغنياء، واقترح عليه أن يغلق المواخير والحانات ودور الفساد، فاستجاب السلطان الأشرف من فوره لما طلبه الشيخ.
أشار الكامل على أخيه الأشرف أن يعين عز الدين قاضيا للقضاة ليصلح له أمور الرعية، فتردد الأشرف، على الرغم من أن إشارة أخيه الأكبر كانت أمر بالقياس إليه.!
وأراد الشيخ أن يقدم هدية للرسول شكرا على هذه الرسالة السارة، فلم يجد غير سجادة صغيرة: ولما عاد خليل يروي للسلطان ما قاله الشيخ عز الدين قال السلطان محنقا: "قولوا لي ما افعل به؟! .. هذا رجل يرى العقوبة نعمة. اتركوه بيننا وبينه الله."
على أن الذين أحاطوا بدار الشيخ العز عز الدين لحراسته أنكروا عليه طاعته لأمر السلطان، وكلموه في ذلك فقال لهم إن مصلحة قيام الشرع تقتضي وجود السلطان، ومتى وجد وجبت طاعته وإلا تعطلت الأحكام!! ولكن لا طاعة للسلطان إذا خان عهد الله وأهدر مصالح المسلمين وأمر بمعصية الخالق. أما فيما عدا ذلك فالطاعة واجبة.
فأمرهم بالحسنى أن ينصرفوا إلى شئونهم ويدعوه وشأنه، فسيعتكف للعبادة .. أما وجودهم حول الدار فسيتيح لأعدائه أن يتهموه بإثارة الفتنة!
غير أنهم انصرفوا إلى الزاوية الغزالية التي كان يدرس بها، وأقسموا ألا يستمعوا لشيخ غيره.! وجلسوا في حلقته الفارغة متربصين! ولم يجئ إليهم أستاذ غيره يعلمهم مكانه!!
على أن سائر العلماء والفقهاء أضمروا السخط على ما أصاب الشيخ، ولكنهم رضوا به لأنهم كانوا يتوقعون عقابا أشد ودعوا الناس إلى الصبر وقضاء أخف من قضاء!!
أما الشيخ جمال الدين الخضيري شيخ الحنفية فما كان ليستطيع على ما جرى صبرا..! وكان عالما ورعا فاضلا صاحب نفوذ على قلوب الناس جميعا، وكان السلطان يحسب له ألف حساب!
وما هي إلا ثلاثة أيام قضاها عز الدين في بيته، متمثلا للأمر السلطاني، ممتنعا عن لقاء من سعوا إلى لقائه، حتى كان الشيخ الخضري يركب حماره إلى السلطان، ومعه ابن الحاجب شيخ المالكية. ولم يكد السلطان يعلم أن الشيخ الخضيري شيخ الحنفية قادم إليه حتى أمر كبير وزرائه وكبار حاشيته أن يستقبلوا الشيخ خارج القصر، وأن يدخلوه القصر راكبا حماره تكريما له.
ودخل الشيخ ساحة القصر، فاستقبله السلطان وأنزله بنفسه عن حماره، ودخله القصر وأجلسه إلى جواره وهش له، وجلس ابن الحاجب وفي يده ورقة فيها توقيع العلماء على تأييد موقف الشيخ عز الدين بن عبد السلام ..
وحين أذن لصلاة المغرب وبسطت المائدة للإفطار، أم الشيخ الخضيري السلطان في الصلاة! وبعد الصلاة دار الشراب عليهم وهم جلوس قبل أن ينتقلوا لمائدة الطعام. وكان الحاضرون هم حاشية السلطان من أراذل فقهاء الحنابلة أعداء العز بن عبد السلام ..
وقدم السلطان للشيخ قدح الشراب، فنحاه بإشارة غاضبة قائلا: "ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك"
فقال السلطان: "يرسم الشيخ ونحن نمتثل لمرسومه."
الشيخ: إيش بينك وبين ابن عبد السلام؟ .. هذا رجل لو كان في الهند أو في أقصى الدنيا كان ينبغي على السلطان أن يسعى في حوله في بلاده ويفخر به على سائر الملوك."
السلطان: عندي خطه باعتقاده في فتيا، وخطه أيضا في رقعة جواب رقعة سيرتها إليه. فيقف الشيخ عليهما ويكون الحكم بيني وبينه.
فلما قرأ الشيخ الخضيري رسالتي عز الدين بن عبد السلام رد الورقتين للسلطان وقال: "هذا اعتقاد المسلمين وشعار الصالحين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار!". ويهب الجميع فالشيخ يتهم السلطان بأنه حمار .. وريع السلطان من حدة الشيخ الخضيري، ونظر إلى ابن الحاجب المالكي فقدم إليه ورقة يؤيد فيها العلماء رأي ابن عبد السلام! ونظر إلى الحاشية من فقهاء الحنابلة فوجدهم قد أسودت وجوههم وعراهم الاضطراب. فقال السلطان الأشرف: "نحن نستغفر الله مما جرى، ونستدرك الفارط في حقه! .. والله لأجعلن ابن عبد السلام أغنى العلماء."
وقاموا إلى الإفطار، ثم أرسل السلطان إلى الشيخ عز الدين، فترضاه وأجلسه إلى جواره وسأله أن يطلب ما شاء ترضية له، فلم يطلب عز الدين شيئا. ولكن السلطان ظل يستعتبه ويسترضيه، حتى رضى الشيخ وعاد إليه مرحه .. وانزوى الأراذل من خصومه، وأذن للعشاء فأمهم الشيخ عز الدين لصلاة العشاء استجابة لدعوة الخضيري وابن الحاجب. وقبل أن ينفض المجلس أمر السلطان ألا يخوض أحد في الكلام في أمر الخلاف مرة أخرى.
وفي اليوم التالي عاد الشيخ عز الدين إلى الزاوية الغزالية بالجامع الأموي يدرس ويفتي، واستقبله محبوه هاتفين .. "الله اكبر .. الله اكبر .. ظهر الحق وزهق الباطل أن الباطل كان زهوقا.:
وعلم الملك الكامل سلطان مصر بما كان، فأرسل يسأل العز ويبدي استعداده لنصرته .. فشكره الشيخ ولم يحك له ما جرى.
وجاء الملك الكامل سلطان مصر، لزيارة أخيه الملك الأشرف سلطان دمشق. وسأل الملك أخاه عما حدث من خلاف بين الشافعية وبعض الحنابلة فقال الأشرف أنه قد أمر الفريقين بأن يكفا عن الكلام سدا لباب الخصام. فقال الملك الكامل ناهرا أخاه الأصغر: "والله مليح..! ما هذا إلا سياسة وسلطنة..!! تساوي بين أهل الحق وأهل الباطل، وتمنع أهل الحق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ كأن الطريق أن تمكن أهل السنة من أن يلحنوا بحججهم، وأن يظهروا دين الله تعالى، وأن تشنق من هؤلاء المبتدعة عشرين نفسا ليرتدع غيرهم، وأن تمكن الموحدين من إرشاد المسلمين وأن يبينوا لهم طريق المؤمنين" .. وذاب الملك الأشرف خجلا، وظل يعتذر عما بدر منه. فاتهمه أخوه الأكبر بالجهل، ونصحه أن يجلس إلى الشيخ عز الدين ليعلمه أصول الدين، ومازال به حتى أقنعه بصحة رأي الأشعري وفساد رأي حاشيته. وأوصاه بعز الدين خيرا فأرسل الأشرف في استدعائه وأخذ الملك الكامل يتلطف مع عز الدين أمام أخيه الملك الأشرف، ويسأله أن يتمنى عليه ما يشاء وعز الدين يشكره ويحمد الله إليه ولا يطلب شيئا .. ووقع الأشرف مرسوما بتعيين الشيخ عز الدين خطيبا للجامع الأموي ليزيد النفع بعلمه.
وقال الأشرف لأخيه الكامل: لقد غلطنا في حق الشيخ عز الدين بن عبد السلام غلطة عظيمة. ولكني ارتضاه ولن اعمل إلا بفتاويه ..
أقتنى السلطان الأشرف رسالة كتبها الشيخ عن مقاصد الصلاة، فكانت تقرأ عليه في اليوم ثلاث مرات، ولا يدخل عنده أحد إلا طلب منه أن يقرأها لينفعه الله بها. وكان يقول لبعض خاصته: "انسخوها وطرزوا بها مجالسكم."
اطمأن الكامل إلى إن أخاه الأشرف قد أصلح عقيدته، وأبعد من حاشيته الفقهاء المتملقين المنافقين البلداء المرتشين من أراذل الحنابلة.
وأصبح له مجلس أسبوعي من فضلاء الحنابلة وعلماء المذاهب الأخرى يتدارسون فيه الفقه وأصول الدين.
وجاءه الشيخ عز الدين مستجيبا لدعوته، وكان من قبل لا يجيبه، فاقترح عز الدين أن يرفع السلطان الضرائب التي تثقل الصناع والتجار والفقراء، وأن يعوضها بضرائب على الأغنياء، واقترح عليه أن يغلق المواخير والحانات ودور الفساد، فاستجاب السلطان الأشرف من فوره لما طلبه الشيخ.
أشار الكامل على أخيه الأشرف أن يعين عز الدين قاضيا للقضاة ليصلح له أمور الرعية، فتردد الأشرف، على الرغم من أن إشارة أخيه الأكبر كانت أمر بالقياس إليه.!