ثم جاءت العساكر المصرية، ونصر الله الأمة المحمدية، وقتلوا عساكر الفرنج. أطلق سراح الشيخ، فانطلق في طريقه إلى القاهرة فبلغها عام 639 هـ بعد عام كامل من الأهوال والخطوب في الطريق إليها.
كان مقدم الشيخ عز الدين إلى القاهرة يوما من أيام الزينة. فقد احتشد الناس الذين سمعوا به في أبهى ملابسهم، وأمر السلطان أمراءه وقادة الجيش أن يرتدوا حلل العيد، وخرج في أبهته على رأسهم يستقبلون الشيخ على الباب الشرقي للقاهرة، وأقد أعدوا له الخيل المطهمة ليمتطيها هو وأهله وأبناؤه بدل المطايا المنهكة.
وعجب الناس للشيخ عز الدين: فهذا العالم الذي تحدى أمراء بني أيوب وملأ أطباق الأرض بآرائه وفتاواه، ليس ضخما ولا مخيفا بل هو نحيل خشن الثوب، وما على رأسه عمامة الفقهاء والعلماء بل اللبدة التي يرتديها العامة والفلاحون في مصر! إنه لشديد الحياء خفيف الصوت..!
وسار الموكب إلى حديقة واسعة غناء فيحاء تتوسطها دار فسيحة. وودعه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب قائلا؛ "هذه هي دارك يا شيخ عز الدين بن عبد السلام. وهي ليست هبة مني ولا من بيت المال، ولكن أهل مصر اشتروها لك نفعهم الله بك، ونفع بك الإسلام والمسلمين أيها الإمام."
وتجولت الزوجة في الدار وهي لا تستطيع أن تغالب فرحها.!! .. أخيرا هاهو ذا البستان التي حلمت أن تعيش فيه .. ولكنه أجمل مما حلمت به وأفسح. وهو بعد يقع على النيل!! .. وفرح الجميع بالأثاث الفاخر، ورقائق الزجاج الملون، والمصابيح الجميلة المتناثرة.
وشعر الشيخ أن هذا المكان الهادئ يمكن أن يمنحه من صفاء الذهن وراحة البال ما يتيح له كتابة ما لم يستطع أن يكتبه في دمشق. استراح في البيت يوما وليلة .. ثم بدأ يستقبل الزوار. وتعرف على علماء مصر وفقائها وشيوخها وتبادلوا الرأي.
وجاءه رسول السلطان يبشره بصدور الأمر بتعيينه إماما وخطيبا لجامع عمرو. فأثنى الحاضرون على قرار السلطان. وكان جامع عمرو قد أصبح منذ عهد صلاح الدين بديلا للأزهر الذي عطل صلاح الدين التدريس فيه في حربه على الشيعة الذين بنوا الأزهر.
وخلال زيارة رسول السلطان للشيخ العز بحضور عدد من الفقهاء والعلماء منهم شيوخ المذاهب الأربعة قال الشيخ المنذري مفتي مصر للحاضرين: "كنا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين، وأما بعد حضوره فالفقه متعين فيه ولا يفتى أحد وهو بيننا" .. وهكذا أصبح الشيخ عز الدين مفتي مصر.
وأراد السلطان أن يعينه قاضيا للقضاة على أن يختار الشيخ نوابا له. فطلب الشيخ أن يمهله بعض الوقت حتى يحسن التعرف على العلماء والقضاة وأحوال الناس في مصر. ولكن السلطان كان يلح عليه. وبعد فترة وجيزة قبل الشيخ منصب قاضي القضاة وعين نوابه بنفسه.
ولم يكد يتولى المنصب حتى لاحظ أن أمراء البلاد وقادة الجيش ليسوا من أهل مصر، وليسوا أحرار على الإطلاق، بل هم مجلوبون، اشتراهم السلطان من بيت المال وهم صغار فتعلموا اللغة العربية وعلوم الدين، وفنون الفروسية والحرب والرياضيات، وعندما شبوا عينهم في مناصبهم. فهم أمراء مماليك أرقاء إذن، وليس لهم حقوق الأحرار. ولهذا فليس لهم أن يتزوجوا بحرائر النساء وكانوا قد تزوجوا من حرائر نساء مصر، وليس لهم أن يبيعوا أو يشتروا أو يتصرفوا إلا كما يتصرف العبيد!.
وبدأ قاضي القضاة يطبق عليهم من أحكام الشريعة ما يطبق على العبيد! وبهت الملك مما صنعه الشيخ، فذهب إليه يسأله أن يعدل عما أخذ فيه، فطلب منه الشيخ ألا يتدخل في القضاء فليس هذا للسلطان، فإن شاء أن يتدخل فالشيخ يقيل نفسه.!
وكان السلطان رجلا قوي الشكيمة، ولكنه لم يعرف ماذا يفعل بالأمر! .. لقد أبطل الشيخ كل ما أبرمه الأمراء المماليك من عقود: عقود البيع والإجارة .. وحتى عقود الزواج!
واضطرب الأمر بالمماليك: فالزوجات يهجرن فراش الزوجية، ويعاملن أزواجهن كالغرباء، والتجار يعودون في الصفقات، والصبية يطاردون الأمراء المماليك بكل هيبتهم ويعيرونهم بأنهم عبيد! .. وكان الناس يذوقون الأهوال من صلف الأمراء!!.
وصف السيوطي "في حسن المحاضرة" تلك الحال بقوله: "تصدى ـ الشيخ عز الدين ـ لبيع أمراء الدولة من الأتراك" وذكر أنه لم يثبت عنده أنهم أحرار وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فعظم الخطب عندهم، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعا ولا شراء ولا نكاحاً (زواجا)، وتعطلت مصالحهم لذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستشاط غضبا، فاجتمعوا وأرسلوا إليه:
فقال الشيخ: "نعقد لكم مجلسا وننادي عليكم (بالبيع) لبيت مال المسلمين، فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجع، فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه، فانزعج النائب وقال: (كيف ينادي علينا هذا الشيخ، ونحن ملوك الأرض، والله لاضربنه بسيفي هذا، فركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج له ولد الشيخ فرأى من نائب السلطان ما رأى، وشرح له الحال، فما أكترث لذلك، وقال: "يا ولدي. أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله"، ثم خرج فحين وقع بصره على النائب، يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وأرعدت مفاصله، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له.
وقال "يا سيدي أيش تعمل"؟.
ـ أنادي عليكم وأبيعكم ويحصل عتقكم بطريق شرعي.
ـ فيم تصرف ثمننا؟
ـ في مصالح المسلمين.
ـ من يقبضه؟
ـ أنا.
أنصرف نائب السلطنة إلى السلطان حيث كان جميع الأمراء قد اجتمعوا عنده، فروى لهم نائب السلطان ما كان بينه وبين الشيخ.
ولم يذعن السلطان، فأرسل إلى الشيخ من يتلطف له ويحاول صرفه عن بيع الأمراء، وأخبره الرسول بعد حوار طويل أن السلطان لن يسمح ببيع الأمراء، وأمر السلطان واجب، وهو فوق قضاء الشيخ عز الدين! وعلى أية حال فليس للشيخ أن يدخل في أمور الدولة فشئون الأمراء لا تتعلق به. بل بالسلطان وحده!!
وأنكر الشيخ تدخل السلطان في القضاء وقام فجمع أمتعته ووضعها على حمار، ووضع أهله على حمير أخرى، وساق الحمير ماشيا! ..
إلى أين يا شيخ!؟ ..
قال: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟! ..
فيم المقام بأرض يستضعف فيها أهل الشريعة، ويعتدي فيها على القضاء؟!
كان مقدم الشيخ عز الدين إلى القاهرة يوما من أيام الزينة. فقد احتشد الناس الذين سمعوا به في أبهى ملابسهم، وأمر السلطان أمراءه وقادة الجيش أن يرتدوا حلل العيد، وخرج في أبهته على رأسهم يستقبلون الشيخ على الباب الشرقي للقاهرة، وأقد أعدوا له الخيل المطهمة ليمتطيها هو وأهله وأبناؤه بدل المطايا المنهكة.
وعجب الناس للشيخ عز الدين: فهذا العالم الذي تحدى أمراء بني أيوب وملأ أطباق الأرض بآرائه وفتاواه، ليس ضخما ولا مخيفا بل هو نحيل خشن الثوب، وما على رأسه عمامة الفقهاء والعلماء بل اللبدة التي يرتديها العامة والفلاحون في مصر! إنه لشديد الحياء خفيف الصوت..!
وسار الموكب إلى حديقة واسعة غناء فيحاء تتوسطها دار فسيحة. وودعه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب قائلا؛ "هذه هي دارك يا شيخ عز الدين بن عبد السلام. وهي ليست هبة مني ولا من بيت المال، ولكن أهل مصر اشتروها لك نفعهم الله بك، ونفع بك الإسلام والمسلمين أيها الإمام."
وتجولت الزوجة في الدار وهي لا تستطيع أن تغالب فرحها.!! .. أخيرا هاهو ذا البستان التي حلمت أن تعيش فيه .. ولكنه أجمل مما حلمت به وأفسح. وهو بعد يقع على النيل!! .. وفرح الجميع بالأثاث الفاخر، ورقائق الزجاج الملون، والمصابيح الجميلة المتناثرة.
وشعر الشيخ أن هذا المكان الهادئ يمكن أن يمنحه من صفاء الذهن وراحة البال ما يتيح له كتابة ما لم يستطع أن يكتبه في دمشق. استراح في البيت يوما وليلة .. ثم بدأ يستقبل الزوار. وتعرف على علماء مصر وفقائها وشيوخها وتبادلوا الرأي.
وجاءه رسول السلطان يبشره بصدور الأمر بتعيينه إماما وخطيبا لجامع عمرو. فأثنى الحاضرون على قرار السلطان. وكان جامع عمرو قد أصبح منذ عهد صلاح الدين بديلا للأزهر الذي عطل صلاح الدين التدريس فيه في حربه على الشيعة الذين بنوا الأزهر.
وخلال زيارة رسول السلطان للشيخ العز بحضور عدد من الفقهاء والعلماء منهم شيوخ المذاهب الأربعة قال الشيخ المنذري مفتي مصر للحاضرين: "كنا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين، وأما بعد حضوره فالفقه متعين فيه ولا يفتى أحد وهو بيننا" .. وهكذا أصبح الشيخ عز الدين مفتي مصر.
وأراد السلطان أن يعينه قاضيا للقضاة على أن يختار الشيخ نوابا له. فطلب الشيخ أن يمهله بعض الوقت حتى يحسن التعرف على العلماء والقضاة وأحوال الناس في مصر. ولكن السلطان كان يلح عليه. وبعد فترة وجيزة قبل الشيخ منصب قاضي القضاة وعين نوابه بنفسه.
ولم يكد يتولى المنصب حتى لاحظ أن أمراء البلاد وقادة الجيش ليسوا من أهل مصر، وليسوا أحرار على الإطلاق، بل هم مجلوبون، اشتراهم السلطان من بيت المال وهم صغار فتعلموا اللغة العربية وعلوم الدين، وفنون الفروسية والحرب والرياضيات، وعندما شبوا عينهم في مناصبهم. فهم أمراء مماليك أرقاء إذن، وليس لهم حقوق الأحرار. ولهذا فليس لهم أن يتزوجوا بحرائر النساء وكانوا قد تزوجوا من حرائر نساء مصر، وليس لهم أن يبيعوا أو يشتروا أو يتصرفوا إلا كما يتصرف العبيد!.
وبدأ قاضي القضاة يطبق عليهم من أحكام الشريعة ما يطبق على العبيد! وبهت الملك مما صنعه الشيخ، فذهب إليه يسأله أن يعدل عما أخذ فيه، فطلب منه الشيخ ألا يتدخل في القضاء فليس هذا للسلطان، فإن شاء أن يتدخل فالشيخ يقيل نفسه.!
وكان السلطان رجلا قوي الشكيمة، ولكنه لم يعرف ماذا يفعل بالأمر! .. لقد أبطل الشيخ كل ما أبرمه الأمراء المماليك من عقود: عقود البيع والإجارة .. وحتى عقود الزواج!
واضطرب الأمر بالمماليك: فالزوجات يهجرن فراش الزوجية، ويعاملن أزواجهن كالغرباء، والتجار يعودون في الصفقات، والصبية يطاردون الأمراء المماليك بكل هيبتهم ويعيرونهم بأنهم عبيد! .. وكان الناس يذوقون الأهوال من صلف الأمراء!!.
وصف السيوطي "في حسن المحاضرة" تلك الحال بقوله: "تصدى ـ الشيخ عز الدين ـ لبيع أمراء الدولة من الأتراك" وذكر أنه لم يثبت عنده أنهم أحرار وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فعظم الخطب عندهم، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعا ولا شراء ولا نكاحاً (زواجا)، وتعطلت مصالحهم لذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستشاط غضبا، فاجتمعوا وأرسلوا إليه:
فقال الشيخ: "نعقد لكم مجلسا وننادي عليكم (بالبيع) لبيت مال المسلمين، فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجع، فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه، فانزعج النائب وقال: (كيف ينادي علينا هذا الشيخ، ونحن ملوك الأرض، والله لاضربنه بسيفي هذا، فركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج له ولد الشيخ فرأى من نائب السلطان ما رأى، وشرح له الحال، فما أكترث لذلك، وقال: "يا ولدي. أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله"، ثم خرج فحين وقع بصره على النائب، يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وأرعدت مفاصله، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له.
وقال "يا سيدي أيش تعمل"؟.
ـ أنادي عليكم وأبيعكم ويحصل عتقكم بطريق شرعي.
ـ فيم تصرف ثمننا؟
ـ في مصالح المسلمين.
ـ من يقبضه؟
ـ أنا.
أنصرف نائب السلطنة إلى السلطان حيث كان جميع الأمراء قد اجتمعوا عنده، فروى لهم نائب السلطان ما كان بينه وبين الشيخ.
ولم يذعن السلطان، فأرسل إلى الشيخ من يتلطف له ويحاول صرفه عن بيع الأمراء، وأخبره الرسول بعد حوار طويل أن السلطان لن يسمح ببيع الأمراء، وأمر السلطان واجب، وهو فوق قضاء الشيخ عز الدين! وعلى أية حال فليس للشيخ أن يدخل في أمور الدولة فشئون الأمراء لا تتعلق به. بل بالسلطان وحده!!
وأنكر الشيخ تدخل السلطان في القضاء وقام فجمع أمتعته ووضعها على حمار، ووضع أهله على حمير أخرى، وساق الحمير ماشيا! ..
إلى أين يا شيخ!؟ ..
قال: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟! ..
فيم المقام بأرض يستضعف فيها أهل الشريعة، ويعتدي فيها على القضاء؟!